فصل: من لطائف القشيري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيء قَدِيرٌ} فهو تحذير لهم بالوعيد سواء حمل على الأمر بالقتال أو غيره. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّ الله على كُلِّ شَيء قَدِيرٌ} تذييل مؤكد لما فيهم من سابقه، وفيه إشعار بالانتقام من الكفار ووعد للمؤمنين بالنصرة والتمكين، ويحتمل على بعد أن يكون ذكرًا لموجب قبول أمره بالعفو والصفح وتهديدًا لمن يخالف أمره. اهـ.

.قال في البحر المديد:

قال بعض العارفين: لا تشتغل قط بمن يؤذيك واشتغل بالله يرده عنك، وقد غلط في هذا الأمر خلق كثير، اشتغلوا بمن يؤذيهم فطال الأذى مع الإثم. ولو أنهم رجعوا إلى مولاهم لكفاهم أمرهم. بل ينبغي لمن يُحْسَدُ أو يُؤْذَى أن يغيب عن الحاسد وكيده، ويشتغل بما هو مكلف به من حقوق العبودية وشهود عظمة الربوبية، فإن الله لا يضيع من التجأ إليه، ولا يخيب مقصود من اعتمد عليه. وبالله التوفيق. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)}.
مَنْ لَحِقَه خسران الفهم من أصحاب الغفلة ودَّ أَلاّ يطلع لأحدٍ بالسلامة نجمٌ، ومَنْ اعتراه الحسد أراد ألاتنبسط على محسوده شمسٌ.
وكذلك كانت صفات الكفار، فأرغم اللهُ أَنْفَهُم، وكبَّهم على وجوههم.
والإشارة من هذا إلى حال أصحاب الإرادة في البداية إذا رغبوا في السلوك، فمن لم يساعده التوفيق في الصحبة، وعاشر أناسًا متمرِّسين بالظواهر فإنهم يمنعون هؤلاء من السلوك ولا يزالون يخاطبونهم بلسان النصح، والتخويف بالعجز والتهديد بالفقر حتى ينقلوهم إلى سبيل الغفلة، ويقطعوا عليهم طريق الإرادة، أولئك أعداء الله حقًا، أدركهم مقت الوقت. وعقوبتهم حرمانهم من أن يشموا شيئًا من روائح الصدق.
{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} فسبيل المريد أن يحفظ عن الأغيار سِرَّه، ويستعمل مع كل أحدٍ ضلة، ويبذل في الطلب رفعة، فعن قريب يفتح الحق عليه طريقه. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب}.
قيل لابن عرفة: ذكر بعضهم في الفاعل أنه يشترط فيه ما يشترط في المبتدإ إذا كان نكرة من أنه لابد له من مسوغ، وذكره في قول الله جلّ ذكره: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} قال ابن عرفة: لم أسمع هذا من أحد إلا في المبادى كنت أسمعه في قول الجزولي أسند إليه فعل، أو ما جرى مجراه.
قال ابن عرفة: ومن دعا على مسلم أن يميته الله كافرا ما يلزمه؟ فقال النووي: إن اعتقد مرجوحية الإيمان فهو كافر، وإلا فهو عاص وإثمه أشد من إثم من دعا على الكافر أن يميته الله كافرا.
والخلاف عندنا في شرطية النطق بالشهادتين هل لابد منها مع القدرة عليها أو يكفي الاعتقاد؟ وأما إن صرح بكلمة الكفر فهو كافر بإجماع، وانظر سورة الحجرات.
قوله تعالى: {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق}.
إمّا أن كفرهم عناد أو ليس بعناد، بناء على أن ارتباط الدليل بالمدلول عادي أو عقلي فيكون الله تعالى: {أنبأهم} ذلك في ثاني حال بعد أن علموه وتحققوه.
قوله تعالى: {فاعفوا واصفحوا}.
قال ابن عرفة: العفو رفع الحرج عمن ثبت وتقرر كمن عفا عن قاتل وليّه بعد ثبوته القتل عليه والصفح رفع الحرج عن الشخص قبل ثبوت موجبه كمن عفا عن قاتل وليه قبل ثبوت القتل عليه، قال: ويكون هذا ترقيا أي فاعفوا عنهم حتى تؤمروا بقتالهم. اهـ.

.من فوائد القرطبي في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق}.
فيها مسألتان:
الأولى: {وَدَّ} تمنّى، وقد تقدّم.
{كُفَّارًا} مفعول ثان ب {يَرُدُّونَكُمْ}.
{مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} قيل: هو متعلق ب{وَدّ}.
وقيل: ب {حَسَدًا}؛ فالوقف على قوله: {كفّارًا}.
و{حسدًا} مفعول له؛ أي وَدُّوا ذلك للحسد، أو مصدر دلّ ما قبله على الفعل.
ومعنى {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} أي من تلقائهم من غير أن يجدوه في كتاب ولا أمِروا به؛ ولفظة الحسد تُعطي هذا.
فجاء {مِن عِنْدِ أنْفُسِهِم} تأكيدًا وإلزامًا؛ كما قال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} [آل عمران: 167] {يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79]، {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38].
والآية في اليهود.
الثانية: الحسد نوعان: مذموم ومحمود؛ فالمذموم أن تتمنّى زوال نعمة الله عن أخيك المسلم؛ وسواء تمنيت مع ذلك أن تعود إليك أوْ لا؛ وهذا النوع الذي ذمّه الله تعالى في كتابه بقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَا آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} [النساء: 54] وإنما كان مذمومًا لأن فيه تسفيه الحق سبحانه، وأنه أنعم على من لا يستحق.
وأما المحمود فهو ما جاء في صحيح الحديث من قوله عليه السلام.
«لا حَسدَ إلا في اثنتين رجلٍ آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليلِ وآناء النهارِ ورجلٍ آتاه الله مالًا فهو ينفقه آناء الليلِ وآناء النهارِ» وهذا الحسد معناه الغِبطة.
وكذلك ترجم عليه البخاري باب الاغتباط في العلم والحكمة.
وحقيقتها: أن تتمنّى أن يكون لك ما لأخيك المسلم من الخير والنعمة ولا يزول عنه خيره؛ وقد يجوز أن يسمَّى هذا منافسة؛ ومنه قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} [المطففين: 26].
{مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق} أي من بعد ما تبيّن الحق لهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن الذي جاء به.
قوله تعالى: {فاعفوا واصفحوا} فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {فاعفوا} والأصل اعفووا حُذفت الضمة لثقلها، ثم حذفت الواو لألتقاء الساكنين.
والعَفْوُ: ترك المؤاخذة بالذنب.
والصفح: إزالة أثره من النفس.
صفحت عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه.
وقد ضربت عنه صفحًا إذا أعرضت عنه وتركته؛ ومنه قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحًا} [الزخرف: 5] الثانية: هذه الآية منسوخة بقوله: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} [التوبة: 29] إلى قوله: {صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] عن ابن عباس.
وقيل: الناسخ لها {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5].
قال أبو عبيدة: كل آية فيها تركٌ للقتال فهي مَكِّية منسوخة بالقتال.
قال ابن عطية: وحُكْمه بأن هذه الآية مَكّية ضعيف؛ لأن معاندات اليهود إنما كانت بالمدينة.
قلت: وهو الصحيح، روى البخاريّ ومسلم عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رَكِب على حمار عليه قَطِيفة فَدَكِيّة وأسامة وراءه، يعود سعد بن عُبَادة في بني الحارث ابن الخزرج قبل وقعة بدْر؛ فسارا حتى مرّا بمجلس فيه عبد اللَّه بن أَبي ابن سَلُول وذلك قبل أن يسلم عبد اللَّه بن أُبَيّ فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عَبَدة الأوثان واليهود؛ وفي المسلمين عبد اللَّه بن رَوَاحة؛ فلما غشِيت المجلس عَجَاجةُ الدابة خَمَّر ابن أُبَيّ أنفه بردائه وقال: لا تُغَبِّروا علينا! فسلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل، فدعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم القرآن؛ فقال له عبد اللَّه بن أَبي ابن سَلُول: أيها المرء، لا أحسن مما تقول إن كان حقا! فلا تؤذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رَحْلك فمن جاءك فاقصص عليه.
قال عبد اللَّه بن رَوَاحة: بلى يا رسول الله، فاغشنا في مجالسنا، فإنا نحب ذلك.
فاستب المشركون والمسلمون واليهود حتى كادوا يتثاورون؛ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخَفّضهم حتى سكنوا؛ ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حُبّاب يريد عبد اللَّه بن أُبَيّ قال كذا وكذا» فقال: أي رسول الله، بأبي أنت وأمي! اعف عنه واصفح، فوالذي أنزل عليك الكتاب بالحق لقد جاءك الله بالحق الذي أنزل عليك؛ ولقد اصطلح أهل هذه البُحيرة على أن يُتَوِّجُوه ويُعَصِّبُوه بالعصابة، فلمّا ردّ الله ذلك بالحق الذي أعطاك شَرِق بذلك، فذلك فعل ما رأيت؛ فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يَعْفُون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله تعالى، ويصبِرون على الأذى؛ قال الله عز وجل: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران: 186] وقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب}.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأوّل في العفو عنهم ما أمره الله به حتى أَذِن له فيهم؛ فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا فقتل الله به مَن قتل مِن صناديد الكفار وسادات قريش؛ فقَفَل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه غانمين منصورين، معهم أسارى من صناديد الكفار وسادات قريش؛ قال عبد اللَّه بن أَبيّ بن سَلُول ومَن معه من المشركين وعَبَدة الأوثان: هذا أَمْرٌ قد تَوجّه؛ فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فأسلموا.
قوله تعالى: {حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} يعني قَتْل قُريظة وجلاء بني النَّضير.
{إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب}.
مناسبته لما قبله أن ما تقدم إخبار عن حسد أهل الكتاب وخاصة اليهود منهم، وآخرتها شبهة النسخ، فجيء في هذه الآية بتصريح بمفهوم قوله: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب} [البقرة: 105] الآية لأنهم إذا لم يودوا مجيء هذا الدين الذي اتبعه المسلمون فهم يودون بقاء من أسلم على كفره ويودون أن يرجع بعد إسلامه إلى الكفر.
وقد استطرد بينه وبين الآية السابقة بقوله: {ما ننسخ} [البقرة: 106] الآيات للوجوه المتقدمة، فلأجل ذلك فصلت هاته الجملة لكونها من الجملة التي قبلها بمنزلة البيان إذ هي بيان لمنطوقها ولمفهومها.
وفي تفسير ابن عطية و(الكشاف) وأسباب النزول للواحدي أن حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر أتيا بيت المدراس وفيه فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس وغيرهما من اليهود فقالوا لحذيفة وعمار: ألم تروا ما أصابكم يوم أحد ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير ونحن أهدى منكم فردا عليهم وثبتا على الإسلام.
والود تقدم في الآية السالفة.
وإنما أسند هذا الحكم أي الكثير منهم وقد أسند قوله: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب} [البقرة: 105] إلى جميعهم لأن تمنيهم أن لا ينزل دين إلى المسلمين يستلزم تمنيهم أن يتبع المشركون دين اليهود أو النصارى حتى يعم ذلك الدين جميع بلاد العرب فلما جاء الإسلام شرقت لذلك صدورهم جميعًا فأما علماؤهم وأحبارهم فخابوا وعلموا أن ما صار إليه المسلمون خير مما كانوا عليه من الإشراك لأنهم صاروا إلى توحيد الله والإيمان بأنبيائه ورسله وكتبه وفي ذلك إيمان بموسى وعيسى وإن لم يتبعوا ديننا، فهم لا يودون رجوع المسلمين إلى الشرك القديم لأن في مودة ذلك تمني الكفر وهو رضي به.
وأما عامة اليهود وجهلتهم فقد بلغ بهم الحسد والغيظ إلى مودة أن يرجع المسلمون إلى الشرك ولا يبقوا على هذه الحالة الحسنة الموافقة لدين موسى في معظمه نكاية بالمسلمين وبالنبيء صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا} [النساء: 51] وفي هذا المعنى المكتنز ما يدلكم على وجه التعبير ب {يردونكم} دون لو كفرتم ليشار إلى أن ودادتهم أن يرجع المسلمون إلى الشرك لأن الرد إنما يكون إلى أمر سابق ولو قيل لو كفرتم لكان فيه بعض العذر لأهل الكتاب لاحتماله أنهم يودون مصير المسلمين إلى اليهودية.
وبه يظهر وجه مجيء {كفارًا} معمولًا لمعمول {ود كثير} ليشار إلى أنهم ودوا أن يرجع المسلمون كفارًا بالله أي كفارا كفرًا متفقًا عليه حتى عند أهل الكتاب وهو الإشراك فليس ذلك من التعبير عن ما صْدق ما ودوه بل هو من التعبير عن مفهوم ما ودوه، وبه يظهر أيضًا وجه قوله تعالى: {من بعد ما تبين لهم الحق} فإنه تبيُّنُ أن ما عليه المسلمون حق من جهة التوحيد والإيمان بالرسل بخلاف الشرك، أو من بعد ما تبين لهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم إذا كان المراد بالكثير منهم خاصة علمائهم والله مطلع عليهم.
و{لو} هنا بمعنى أن المصدرية ولذلك يؤول ما بعدها بمصدر.
و{حسدًا} حال من ضمير {وَدَّ} أي إن هذا الود لا سبب له إلا الحسد لا الرغبة في الكفر.
وقوله: {من عند أنفسهم} جيء فيه بمن الابتدائية للإشارة إلى تأصل هذا الحسد فيهم وصدوره عن نفوسهم.
وأُكد ذلك بكلمة عند الدالةِ على الاستقرار ليزداد بيانُ تمكنه وهو متعلق بحسدًا لا بقوله: {ود}.
وإنّما أمر المسلمون بالعفو والصفح عنهم في هذا الموضع خاصة لأن ما حكى عن أهل الكتاب هنا مما يثير غضب المسلمين لشدة كراهيتهم للكفر قال تعالى: {وكره إليكم الكفر} [الحجرات: 7] فلا جرم أن كان من يود لهم ذلك يعدونه أكبر أعدائهم فلما كان هذا الخبر مثيرًا للغضب خيف أن يفتكوا باليهود وذلك ما لا يريده الله منهم لأن الله أراد منهم أن يكونوا مستودع عفو وحلم حتى يكونوا قدوة في الفضائل.
والعفو ترك عقوبة المذنب.
والصفح بفتح الصاد مصدر صفح صفحًا إذا أعرض لأن الإنسان إذا أعرض عن شيءٍ ولاه من صفحة وجهه، وصفح وجهه أي جانبه وعرضه وهو مجاز في عدم مواجهته بذكر ذلك الذنب أي عدم لومه وتثريبه عليه وهو أبلغ من العفو كما نقل عن الراغب ولذلك عطف الأمر به على الأمر بالعفو لأن الأمر بالعفو لا يستلزمه ولم يستغن باصفحوا لقصد التدريج في أمرهم بما قد يخالف ما تميل إليه أنفسهم من الانتقام تلطفًا من الله مع المسلمين في حملهم على مكارم الأخلاق.
وقوله: {حتى يأتي الله بأمره} أي حتى يجيء ما فيه شفاء غليلكم قيل هو إجلاء بني النضير وقتل قريظة، وقيل الأمر بقتال الكتابيين أو ضرب الجزية.
والظاهر أنه غاية مبهمة للعفو والصفح تطمينًا لخواطر المأمورين حتى لا ييأسوا من ذهاب أذى المجرمين لهم بطلًا وهذا أسلوب مسلوك في حمل الشخص على شيء لا يلائمه كقول الناس حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا فإذا جاء أمر الله بترك العفو انتهت الغاية، ومن ذلك إجلاء بني النضير.
ولعل في قوله: {إن الله على كل شيء قدير} تعليمًا للمسلمين فضيلة العفو أي فإن الله قدير على كل شيء وهو يعفو ويصفح وفي الحديث الصحيح: «لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عز وجل يدعون له ندًا وهو يرزقهم»، أو أراد أنه على كل شيء قدير فلو شاء لأهلكهم الآن ولكنه لحكمته أمركم بالعفو عنهم وكل ذلك يرجع إلى الائتساء بصنع الله تعالى وقد قيل: إن الحكمة كلها هي التشبه بالخالق بقدر الطاقة البشرية.
فجملة {إن الله على كل شيء قدير} تذييل مسوق مساق التعليل، وجملة {فاعفوا واصفحوا} إلى قوله: {وقالوا لن يدخل} [البقرة: 111] تفريع مع اعتراض فإن الجملة المعترضة هي الواقعة بين جملتين شديدتي الاتصال من حيث الغرض المسوق له الكلام والاعتراض هو مجيء ما لم يسق غرض الكلام له ولكن للكلام والغرض به علاقة وتكميلًا وقد جاء التفريع بالفاء هنا في معنى تفريع الكلام على الكلام لا تفريع معنى المدلول على المدلول لأن معنى العفو لا يتفرع عن ود أهل الكتاب ولكن الأمر به تفرع عن ذكر هذا الود الذي هو أذى وتجيء الجملة المعترضة بالواو وبالفاء بأن يكون المعطوف اعتراضًا.
وقد جوزه صاحب (الكشاف) عند قوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} في سورة النحل (43)، وجوزه ابن هشام في (مغني اللبيب) واحتج له بقوله تعالى: {فالله أولى بهما} [النساء: 135] على قول ونقل بعض تلامذة الزمخشري أنه سئل عن قوله تعالى في سورة عبس (11- 13) {إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة} أنه قال لا يصح أن تكون جملة {فمن شاء ذكره} اعتراضًا لأن الاعتراض لا يكون مع الفاء ورده صاحب (الكشاف) بأنه لا يصح عنه لمنافاته كلامه في آية سورة النحل. اهـ.